تمرية من جديد

تحدثنا في المقال السابق عن الأسباب التي تجعل الدول المتقدمة لا تفتح أبوابها على مصراعيها للعمالة الرخيصة، وذكرنا أن أهم الأسباب تتركز على الضرر الكبير على متوسط مستويات الدخل للمواطنين بالإضافة لإضعاف نمو الإنتاجية في الاقتصاد. حيث أن وفرة العمالة الرخيصة تقضي على أي حافز لزيادة إنتاجية الموظفين من خلال الأتمتة أو من خلال التدريب. وفي نهاية المقال ذكرت أنني سأكتب في المقال القادم نموذجا حيا للأثر الإيجابي على الاقتصاد لإيقاف تدفق العمالة الرخيصة.

قبل حوالي سنة ونصف، كتبت مقالا عن تجربة لأحد الأصدقاء، وهو أحد الملّاك والمدراء لشركة تمرية المختصة في مجال حلويات التمور الفاخرة. روى هذا الصديق أن تضييق وزارة العمل على استقدام العمالة الرخيصة أجبرهم على البحث عن وسائل أخرى للاستمرار في النمو. فأصبح النمو من خلال زيادة العمالة الرخيصة خيارا غير مطروح. فقرر ملاك الشركة الاستثمار في شراء معدات لأتمتة جزء كبير من العمل اليدوي، مما يعني القدرة على زيادة الإنتاج دون زيادة كبيرة في اليد العاملة.

كلّفت المعدات حوالي 3 ملايين ريال، بالإضافة للتكاليف الأخرى المتعلقة بتجهيز المصنع، ليصل المجموع إلى حوالي 5 ملايين. هذه المعدات رفعت الإنتاجية عدة أضعاف. وسمحت للشركة بأن تزيد في الإنتاج بكمية كبيرة دون استقدام مزيد من العمالة. ولكن، النقطة الأهم هي أن الشركة أصبحت قادرة أن تبيع المنتج بسعر أقل، لأن تكلفة الإنتاج الإجمالية أصبحت أقل، وهذا ما حدث فعلا، حيث أن سعر المنتج تم تخفيضه بنسبة 10% بعد بدء تشغيل المصنع، لاحظوا المفارقة: ارتفاع تكلفة العمالة أدى بالنهاية إلى انخفاض السعر. كيف حدث ذلك؟ عندما ترتفع تكلفة اليد العاملة يبحث المستثمر عن وسائل أخرى لرفع الإنتاجية، وهنا يأتي دور الأتمتة. هكذا تنمو الدول المتقدمة وترفع من ناتجها القومي وتزيد من رفاهية مواطنيها، الاستثمار المستمر في مراكمة رأس المال المنتج والتدريب، وليس من خلال استقدام المزيد من العمالة الرخيصة.

تعليقات فيس بوك

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>