Monthly Archives: سبتمبر 2013

هل ازداد السعوديون فقرا؟

سؤال يتكرر دائما، ويدور في المجالس والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعية عبر الإنترنت: "هل ازداد السعوديون فقرا؟" هل أصبحت تكاليف المعيشة أعلى على رب الأسرة؟ هل تآكلت القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة؟ وتآكلت معها الطبقة المتوسطة؟ الحقيقة التي لا تخطئها العين أن تكاليف الحياة ارتفعت بشكل ملحوظ خلال العقود الماضية. والحقيقة الأخرى أن مستويات الرواتب والدخول لم ترتفع بشكل ملحوظ يوازي الارتفاع الذي شهدته أسعار السلع والخدمات والعقار خلال الثلاثة عقود الماضية. ولا يختلف اثنان أن المواطن الذي يعمل موظفا حكوميا في بداية الثمانينات لن يجد صعوبة في توفير تكاليف الزواج وامتلاك منزل وسيارة، بل قد يتمكن من ادخار جزء من دخله للاستثمار في سوق الأسهم أو العقار.

وزير الاقتصاد: الطبقة المتوسطة لم تنكمش ولكن طموحها ازداد

"الطبقة المتوسطة لم تنكمش ولكن طموحها ازداد" بهذه الكلمات رد وزير الاقتصاد محمد الجاسر على سؤال يتعلق بانخفاض مستوى دخل المواطن، وأكد الوزير أن لديهم دراسات تثبت ذلك. قبل أن نوضح حقيقة ما قاله الوزير، أود أن أشير إلى أن الطبقة المتوسطة هي مسألة نسبية، وبالتّالي فهه الطبقة قد لا تنكمش أبدا، حتى وإن انخفض متوسط الدخل للمواطنين بنسبة كبيرة. لأنه يتم احتساب دخلها من خلال مقارنتها ببقية الدخول لكل طبقات المجتمع، حتى الدولة الفقيرة لديها طبقة متوسطة ولكن مستوى معيشتها سيكون أقل بكثير من مستوى الطبقة المتوسطة في دولة غنية. لذلك، السؤال الأدق التي نبحث عن إجابة لها من معالي الوزير هو "هل انخفض وانكمش متوسط دخل الطبقة المتوسطة خلال الثلاثة عقود الماضية أم لا؟"

إذا كانت الشواهد للمواطن البسيط تدل وبوضوح على أن القوة الشرائية لمتوسط الدخل تآكلت بشكل كبير، فإن الأرقام الاقتصادية تثبت ذلك أيضا. في المقالات السابقة، تحدثنا عن طريقة حساب الناتج المحلي الإجمالي ثم طريقة تصحيح هذا الرقم ليأخذ بالحسبان مستوى التضخم وفوارق أسعار صرف العملة، وبعد التصحيح يمكننا تقسيم هذا الرقم على عدد السكان لنخرج بالناتج المحلي الحقيقي للفرد وهو أحد أهم الأرقام التي تعكس مستوى المعيشة والإنتاجية والتقدم الاقتصادي لأي بلد. كما أنها تقيس مستوى النمو الحقيقي ويمكن استخدام الرقم للمقارنة بين أكثر من دولة لمعرفة الدول الأكثر والأسرع نموا.

الناتج المحلي للفرد في السعودية انخفض 35% في آخر 30 سنة

يقوم البنك الدولي سنويا بنشر أرقام الناتج المحلي الحقيقي للفرد في كل دول العالم، كما يوفر البيانات التاريخية لكل دولة لعشرات السنين، أرقام البنك تشير إلى أن الناتج المحلي الحقيقي للفرد في السعودية عام 1980 كان يتجاوز 126 ألف ريال، أما في عام 2011 – وهي آخر سنة نشرت فيها الأرقام – فقد كان الناتج المحلي الحقيقي للفرد في السعودية لا يتجاوز 82 ألف ريال. أي أن الناتج المحلي الحقيقي للفرد في السعودية انخفض بنسبة تصل لحوالي 35%، أما في السنوات العشرين الماضية فلا يكاد يكون هناك أي نمو يذكر في الناتج المحلي الحقيقي للفرد. لنقارن هذه الأرقام مع أرقام كوريا الجنوبية، الناتج المحلي الحقيقي للفرد في كوريا في عام 1980 كان أقل من 21 ألف ريال سعودي (أي أقل من خمس الناتج المحلي الحقيقي للفرد في السعودية في 1980)، وهذا يفسر وجود عمالية كوريا في السعودية في تلك الفترة، وفي عام 2011 تجاوز الناتج المحلي للفرد في كوريا 100 ألف ريال سعودي (أي أكثر من الناتج المحلي الحقيقي للفرد في السعودية بنسبة 20% تقريبا). الناتج المحلي للفرد في كوريا ارتفع بنسبة 400% خلال الثلاثين سنة الماضية. في المقابل انخفض الناتج المحلي للفرد في السعودية بنسبة 35%. في أمريكا وألمانيا ارتفع الناتج المحلي الحقيقي للفرد خلال ثلاثين سنة بحوالي 66%. وفي تركيا ارتفع بأكثر من 125%، بل إنّ الناتج الحقيقي للفرد في العالم كله، بدوله الفقيرة والغنية، ارتفع بمعدل 70% خلال الثلاثين سنة الماضية.

السعودية تتراجع 39 مركزا في ترتيب أكبر ناتج محلي للفرد في العالم

وحتى تكون الصورة أكثر جلاء، فقد كانت السعودية عام 1980 تحتل المرتبة الرابعة كأكبر ناتج محلي حقيقي للفرد في العالم، وفي عام 1990 انخفض ترتيبنا للمرتبة الثامنة والعشرين، ثم شهد ترتيبنا مزيدا من الانخفاض في عام 2000 ليصل للمرتبة الثالثة والخمسين، وأخيرا وصل الترتيب في عام 2010 إلى ثلاثة وأربعين. خلال ثلاثين سنة، أكثر من 39 دولة تجاوزتنا في سباق التنمية الاقتصادية، غالبية هذه الدول ليس لديها دخل نفطي أو مورد طبيعي يضمن لها رؤوس الأموال التي تبني من خلالها البنية التحتية وتحسن التعليم وتدعم الإنتاج والتصنيع، ورغم هذا استطاعت تلك الدول أن ترفع من دخلها سنة بعد سنة.

النفط… ما زال مصدر دخلنا الرئيسي الوحيد

قتامة الصورة لا تقتصر على أن الناتج المحلي الحقيقي للفرد انخفض كثيرا، وأن كثيرا من الدول تجاوزتنا، ولكن المؤلم أنه حتى الناتج المحلي الحالي الذي انخفض، لا يعكس إنتاجية حقيقية، وإنما هو انعكاس لما تصدره الدولة من نفط وما تستهلكه داخليا. اقتصادنا ما زال يعتمد وبشكل شبه كامل على مداخيل النفط، لقد فشلنا في أن ننوع اقتصادانا ونتحرر من اعتمادنا على مصدر وحيد للدخل وهو النفط. إذا كان ناتج الفرد قد انخفض 35% خلال ثلاثين سنة وترتيبنا على العالم تراجع 39 مرتبة رغم أن أسعار النفط وصلت ذروتها في السنوات الأخيرة، وإنتاجنا للنفط بلغ مستويات تاريخية، واستهلاكنا الداخلي له وصل لأرقام غير مسبوقة، فإن الناتج سيشهد مزيدا من الانخفاض لو تعرضت أسعار النفط لأي انخفاض، أو لو ازداد استهلاكنا الداخلي لمستويات أكبر تمنعنا من تصدير كمية كافية من النفط وتقلل عوائد مصدر دخلنا الرئيسي وهو تصدير النفط. وفوق كل ذلك، فإن توزيع الثروة ومستويات الدخل ازداد التفاوت فيه، فبينما كان غالبية المواطنين يعملون في القطاع الحكومي ويستلمون مرتبات متقاربة، تضاءلت فرص العمل في القطاع الحكومي وبدأ التركيز على استقطاب العمالة الوطنية في القطاع الخاص، حيث يحصل موظف القطاع الخاص على مرتبات أقل بكثير (قد تصل لنصف معدل ما يحصل عليه موظف الحكومة)، وهذا يعني نشوء شريحة جديدة من المجتمع تعيش على مستوى دخل أقل من المستوى السائد. الأمر الآخر هو أن النمو العالمي المستمر – حتى في الدول الفقيرة – سيعني حتما ارتفاع أسعار السلع والخدمات في العالم، وبما أننا نعتمد بشكل شبه كامل على استيراد كل ما نستهلك، فإن ذلك سيزيد من الضغوط التضخمية وتتآكل معها القوة الشرائية للمواطن.

النمو الاقتصادي الحقيقي مخرجنا الوحيد من الأزمة

لا خيار لنا، إن أردنا الخروج من تلك الدوامة، إلا بتسريع عجلة النمو الاقتصادي الحقيقي، وليس النمو الاقتصادي القائم على زيادة الدعم الحكومي غير المستدام أو الإنفاق الحكومي المرتبط بزيادة عوائد النفط، عندما يشتكي الناس عبر تويتر وعبر وسائل الإعلام من انخفاض الرواتب وأنها لا تكفي الحاجة، فشكواهم حقيقية ومبررة ولكن ما يعانون منه هو عرض من أعراض المرض الاقتصادي الذي نعانيه، والشكوى التي يجب أن تتجه لها البوصلة هي أن (النمو الاقتصادي لا يكفي الحاجة)، النمو الاقتصادي الحقيقي هو الذي سيرفع مستوى الدخل ويحسن المستوى المعيشي للمواطنين، وهو الذي سيضمن لنا وللأجيال القادمة – بإذن الله – حياة كريمة ورفاهية غير مرهونة بمؤشر أسعار النفط أو تآكل إنتاجه بسبب الاستهلاك المحلي.

 

رسم بياني يوضح مستوى النمو للناتج المحلي الحقيقي للفرد خلال الثلاثين سنة الماضية لكل من السعودية (الخط الأحمر) وأمريكا (الخط الأزرق) وكوريا الجنوبية (الخط البنفسجي)growth

 

ترتيب السعودية بين دول العالم في الناتج المحلي الحقيقي للفرد (عام 1980)
rank1980

 

ترتيب السعودية بين دول العالم في الناتج المحلي الحقيقي (عام 2011)
rank2011

كيف يقاس الناتج المحلي الحقيقي للفرد؟

في المقال السابق تحدثنا بشكل مبسط عن كيفية قياس حجم اقتصاد الدول، وأوضحنا أن أهم معيار لقياس الاقتصاد هو الناتج المحلي الإجمالي، وأنه يقاس من خلال حساب قيمة جميع السلع والخدمات النهائية التي ينتجها اقتصاد الدولة خلال فترة معينة، وفي هذا المقال سنقوم بتوضيح بعض الآليات التي ترفع من دقة هذا المعيار وتجعلها أكثر تعبيرا عن مستوى النمو وحجم الاقتصاد، خاصة من خلال إلغاء أثر التضخم، وبعد ذلك زيادة دقته أكثر حتى نتمكن من مقارنة الناتج المحلي مع بقية دول العالم، حيث أن اختلاف سعر صرف العملات وتقييم العملات بأعلى أو أقل من قيمتها يؤثر على دقة المقارنة من بلد لبلد يفرض على الاقتصاديين إضافة تصحيح آخر على هذا المعيار حتى تكون المقارنة أكثر دقة، بعد القيام بكل ذلك يمكننا تقسيم الناتج المحلي على عدد السكان حتى نحصل على رقم مهم جدا وهو الناتج المحلي الإجمالي للفرد، حيث أن هذا الرقم يعطينا تصور عن مستوى إنتاجية الفرد ومستوى رفاهيته، كما أن المقارنة التاريخية لنمو الرقم يمكننا من الحكم على نجاح السياسات الاقتصادية خلال فترات زمنية مختلفة.

إجمالي قيمة جميع السلع والخدمات النهائية بسعر (السوق) يعطينا الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، السلبية الرئيسية لهذا الرقم أنه لا يأخذ بالحسبان تأثير التضخم، فلو كان إجمالي قيمة السلع والخدمات سنة 2000 على سبيل المثال 1 مليار ريال، وفي سنة 2001 كان الإجمالي 1.1 مليار ريال، وكان التضخم في أسعار السلع 10%، فهذا يعني أن الفارق بين الناتج المحلي بين السنتين سببه التضخم وليس نمو حقيقي في إنتاج السلع والخدمات، لذلك للحصول على ما يسمى الناتج المحلي الحقيقي يجب اختيار سنة محددة كسنة أساس ثم حساب بقية السنوات بناء عليها بعد إلغاء أثر التضخم، باستخدام المثال السابق، لو كان التضخم 4% فقط، وكان النمو الإسمي لقيمة السلع والخدمات التي أنتجها الاقتصاد 10%، فهذا يعني أن النمو (الحقيقي) للناتج المحلي يساوي 6%. وباستخدام بعض البيانات الحقيقية، فإن النمو في السعودية بين عام 2000 وعام 2012 باستخدام الناتج الإجمالي المحلي الاسمي يصل لحوالي 277%. ولكن إذا أخذنا بالاعتبار تأثير التضخم فإن نسبة النمو في الناتج الإجمالي المحلي الحقيقي لا يتجاوز 93%.

الناتج المحلي الحقيقي معيار مناسب جدا لقياس النمو الحقيقي في اقتصاد ما، ولكن عند المقارنة بدول أخرى لها عملات مختلفة، فإن هناك عنصرا جديدا يدخل بالمعادلة، ألا وهو سعر صرف العملة ومدى تأثير سعر الصرف على القوة الشرائية المحلية. ولتصحيح هذا الفارق يتم استخدام ما يسمى بتعادل القوى الشرائية (Purchasing Power Parity). ويتم حساب الفارق في القوة الشرائية للعملات من خلال شراء سلة من السلع والخدمات في الدولة الأولى ومقارنة تكلفة شراء نفس السلة عند شرائها في دولة ثانية. وبعد ذلك يتم احتساب سعر الصرف (المفترض) الذي يجعل القوة الشرائية متساوية في البلدين. وأحد أشهر المؤشرات غير الرسمية التي تبسط هذه الفكرة وتقوم بقياس صرف العملة المفترض هو مؤشر (البيج ماك)، الذي تنشره أسبوعيا مجلة الإيكونمست، حيث يقيس المؤشر تعادل القوى الشرائية للعملة بين دولتين من خلال تقسيم سعر الساندويتش في الدولة الأولى على سعر الساندويتش في الدولة الثانية، ومن خلالها يمكن الحصول على السعر المفترض للصرف.

بعد أن يتم تعديل قيمة الناتج المحلي من خلال إلغاء تأثير التضخم، وبعد أن يتم إلغاء تأثير سعر العملات الذي قد يكون مقيما بأعلى أو أقل من قيمته، يمكن الحصول على الناتج المحلي الحقيقي للفرد ومقارنته بالدول الأخرى، كما يمكن استخدام نفس الرقم لقياس مستوى النمو خلال فترات زمنية مختلفة، وأخيرا يمكن حساب النمو المفترض بحالات مختلفة، على سبيل المثال، إذا غاب عنصر أساسي من دخل الاقتصاد، كالنفط. وبالتالي معرفة ما إذا كان النمو مدفوعا بإنتاج حقيقي مستدام، أم أنه يعتمد على توفر الطاقة الرخيصة غير المستدامة والدخل الريعي غير المستدام.

مقالات متعلقة:

  1. كيف يقاس حجم اقتصاد الدول؟