Monthly Archives: ديسمبر 2012

كيف تنهض مصر اقتصاديا؟

صوّت المصريون هذا الأسبوع بنعم على دستور مصر ما بعد ثورة، الموافقة على الدستور تمثل حسب رأي الكثيرين آخر فصل من فصول المرحلة الانتقالية، وبعد إقرارها رسميا سيبدأ تشكيل مؤسسات الدولة وعلى رأسها البرلمان الذي سيشكل الحكومة الجديدة التي ستقود مصر ما بعد الثورة. هناك إجماع بأن أهم ملف ستحمل عاتقه أي حكومة قادمة هو الملف الاقتصادي، فالمواطن المصري البسيط لا يهمه صراعات النخبة السياسية ولكن يهمه بالنهاية لقمة عيشه ومستوى معيشته، لذلك فإن النهضة الاقتصادية لمصر ستكون أحد أهم معايير تحقيق الثورة أهدافها في الخمس أو العشر سنوات القادمة.

الإصلاحات التي تحتاجها مصر للنهوض باقتصادها كثيرة، ولكن هناك بعض الإصلاحات الهيكلية التي سيكون لها التأثير الأبرز على المدى الطويل، وهي التي ستضمن النمو المستدام وارتفاع الانتاجية للاقتصاد المصري، يأتي على رأس هذه الاصلاحات تعويم العملة المصرية، تعويم العملة وترك تحديد سعره لقوى سوق العملات في العالم سيوفر على الحكومة عبء تثبيت سعره كما هو حاصل حاليا، وسيؤدي تعويم الجنيه المصري لانخفاض في قيمته قد يصل لأكثر من 30% أو40% بالمائة، هذا الانخفاض في قيمة الجنيه سيكون له تأثير سلبي على المواطنين في المدى القصير، حيث سترتفع أسعار السلع المستوردة وسيواجه المستهلك تضخما وتآكلا في القوة الشرائية، ولكن في المقابل فإن انخفاض سعر العملة سيجعل الاقتصاد المصري أكثر تهيؤا للنمو، وخاصة نمو الصناعة المحلية، حيث سترتفع تنافسية المنتج المحلي مقارنة بالمنتجات المستوردة، كما سترتفع جاذبية الاستثمار للمستثمر الاجنبي لأن أسعار الأصول ستنخفض بالنسبة له، وأخيرا فإن تعويم العملة سيسهم في تقليل عجز الموازنة الحكومية التي تتحمل حاليا عبء تثبيت العملة بمستوياتها الحالية، والتي يمثل عجز ميزانيتها تهديدا اقتصاديا خطيرا. إصلاح الاقتصاد من خلال تعويم العملة هو نفس الإجراء الذي قامت به تركيا في عام 2001 وهو العامل الأهم في النهضة الاقتصادية والنمو المتسارع للاقتصاد التركي، حيث لم يتجاوز النمو في الناتج القومي التي بين عامي 1990 و 2000 نسبة 33%، بينما تجاوز النمو بين عامي 2000 و 2010 نسبة 173% وذلك بعد تعويم العملة التركية.

ثاني أهم الإصلاحات هو رفع الدعم الحكومي للسلع والوقود، والذي يستهلك أكثر من 10% من الناتج المحلي المصري، حيث أن الفقراء هم الشريحة الأقل استفادة من هذا الدعم، وتشير التقارير الاقتصادية أن 90% من الدعم الحكومي يستفيد منه أغنى 20% من المجتمع المصري، كما أن الدعم يمثل بيئة مثالية للفساد الذي يستهلك أكثر من 30% من الدعم حسب بعض التقارير، لذلك فإن على الحكومة المصرية أن ترفع الدعم وتستبدله بدعم نقدي مباشر للاسر المحتاجة، وبذلك تضمن وصول الإعانة لمن يحتاجها فقط.

ثالث أبرز الإصلاحات الهيكيلة هو التعامل مع القطاع الاقتصادي غير الرسمي، والقطاع غير الرسمي هو المنشآت التي لا تعمل بشكل رسمي ولا تدفع ضرائب، ويقدر الاقتصاديون حجم هذا القطاع بترليون جنيه، تمثل 35% من حجم الاقتصاد في مصر ويعمل فيها أكثر من 40% من القوى العاملة، تقنين هذا القطاع سيضيف لدخل الحكومة من الضرائب أكثر من 100 مليار جنيه، كما أن تحول هذه المنشآت من القطاع غير الرسمي للقطاع الرسمي سيمكنها من الاقتراض من البنوك والنمو، مما يسهم بشكل فاعل في نمو الاقتصاد بشكل عام. بالإضافة للتهرب من الضرائب فإن أحد أهم عوامل نشوء وتضخم القطاع غير الرسمي هو البيروقراطية والفساد الحكومي، والذي يعيق إنشاء المؤسسات الصغيرة ويدفع صغار المستثمرين للعمل في القطاع غير الرسمي، لذلك فإن على الحكومة أن تقوم بإصلاح القطاعات الحكومية وتقلل من البيروقراطية وتسهل الإجراءات على الراغبين في العمل الحر.

الإصلاحات الثلاثة السابقة ضرورية لنهضة الاقتصاد المصري، ولكنها بنفس الوقت مكلفة سياسيا على المدى القصير، وأي حكومة تبادر في هذه الإصلاحات ستخسر كثيرا من رصيدها السياسي وقد يعني ذلك فشلها في أي انتخابات قادمة، وبسبب ذلك ستكون قيادة الحكومة القادمة كالجمرة التي يحاول كل فصيل أن يرميها على الآخر حتى لا يتحمل وزر القرارات الإصلاحية التي لن تلقى قبولا شعبيا على المدى القصير ولكنها ضرورة لا مفر منها إذا أرادت مصر أن تنتقل لمصاف الدول المتقدمة اقتصاديا.

مزرعة القمح

في جزيرة ما، يعيش أهلها برغد ورفاه، ويعمل غالبية مواطنيها بوظائف مريحة وبمرتبات عالية، وكغيرهم من سكان العالم يحتاج سكان الجزيرة لتوفير الغذاء وخاصة القمح كونها مادة غذائية أساسية، حيث كان القمح يزرع بالجزيرة ولكن المواطنين كانوا يتجنبون العمل فيها كمزراعين، بسبب انخفاض الأجور وصعوبة العمل في هذا المجال.

كان في هذه الجزيرة 10 مزارع قمح، كلها بنفس المساحة، ويعمل في كلّ منها نفس العدد من المزارعين، وكانت حكومة الجزيرة تسمح لهذه المزارع أن تستقدم العمالة الرخيصة من خارج الجزيرة، ولأسباب سياسية واقتصادية وأمنية كانت الحكومة تضع حدا أقصى لعدد العمالة المسموح استقدامها سنويا، حيث كانت تسمح باستقدام 100 عامل سنويا. وكانت الحكومة – من باب العدالة – توزع هذه العمالة بالتساوي بين المزارع – عشرة عمال لكل مزرعة، وكان تكلفة العمالة 200 دولار لكل عامل، الإختلاف الوحيد بين هذه المزارع هو مستوى الإنتاجية، فعلى الرغم من أن عدد المزارعين متساوي ومساحات المزارع متساوية، إلا أن بعضها كان ينتج قمحا أكثر من الآخر بسبب استخدام التكنولوجيا وارتفاع الكفاءة الإدارية، حيث كانت هناك مجموعتين، كل مجموعة يوجد بها 5 مزارع. المجموعة الأولى كانت تنتج 10 آلاف طن من القمح، وكانت قيمة ما ينتجه المزارع الواحد في هذه المزارع حوالي 2,000 دولار شهريا. أما المجموعة الثانية فقد كانت تنتج 3000 طن من القمح، وكانت قيمة ما ينتجه المزارع الواحد حوالي 600 دولار شهريا.

بعد فترة قررت الحكومة أن تتوقف عن توزيع العمالة بالتساوي وذلك بأن تفرض رسوما شهرية على العمالة، ويتم تحديد قيمة الرسوم من خلال أصحاب المزارع، ومن يدفع أعلى مبلغ يحصل على العامل، تقدمت مجموعة المزارع الأعلى إنتاجية بطلب العمالة برسم شهري يساوي 400 دولار شهريا، وهو يعني أنه من غير المجدي أن تستقدم المجموعة الأقل كفاءة أي عمالة، لأن هامش ربحها من كل عامل يساوي 400 دولار وبالتالي فإنها لا يمكن أن تحقق أية أرباح. وبذلك ذهبت كل العمالة الموجودة والمستقدمة للمزارع الأكثر الإنتاجية، فماذا كانت نتيجة هذا التغيير؟ ارتفعت تكلفة العامل 400 دولار شهريا. فهل ارتفع سعر القمح أيضا؟

الذي حدث بعد هذا التغيير أن كل العمالة اتجهت للمزارع الأعلى إنتاجية، فارتفع الإنتاج من 13 ألف طن قبل رفع الرسوم، إلى 20 ألف طن بعد رفع الرسوم، وبنفس عدد العمالة السابق. الزيادة الكبيرة في الإنتاج رفعت من حجم معروض القمح في السوق، وبالتالي دفعت الأسعار للإنخفاض، وبذلك استطاعت الجزيرة أن تغطي كافة احتياجاتها من القمح بتكلفة أقل، وستحتاج في المستقبل لعدد أقل من العمالة الوافدة حتى تغطي نمو احتياجات المستهلكين.

جوهر فكرة اقتصاد السوق هو أن تتجه الموارد المحدودة لأكثر القطاعات أو المنشآت إنتاجية، وفي حالة العمالة فإنها تمثل عنصر إنتاج ضروري ولكنها ولأسباب متعددة عنصر محدود، ولذلك فإن توجيه هذا العنصر للقطاعات الأكثر كفاءة يفيد الجميع، فالإنتاجية ترتفع، والأسعار تنخفض، وسيكون الاحتياج أقل لهذه العمالة. والتوجيه الأمثل لهذا العنصر لا يتحقق إلا من خلال أدوات السوق، فالمنشآت التي تستطيع دفع مبلغ أعلى لهذا العنصر الإنتاجي هي الأحق بالحصول عليه، لأنها الأقدر على الحصول على أعلى إنتاجية وأعلى عائد يفيد الاقتصاد ويفيد المجتمع.