Monthly Archives: أكتوبر 2012

العجز التجاري الحقيقي للسعودية

يمثل الميزان التجاري لاقتصاد أي دولة مؤشرا مهما لصحة الدولة اقتصاديا وقوة عملتها وقدرتها الانتاجية، والميزان التجاري هو الفارق بين قيمة الصادرات من سلع وخدمات وقيمة الواردات، فإذا كانت الدولة تصدر للعالم أكثر مما تستورد فسيكون هناك فائض في ميزانها التجاري، أما إذا كانت تستورد سلعا وخدمات أكثر مما تصدره للعالم فهذا سيعني أن هناك عجزا تجاريا، في حال وجود عجز تجاري فإن الدول تضطر أن تقترض من العالم لتغطية قيمة ما تشتريه من سلع وخدمات، وعادة ما تعجز الدول عن الاستمرار في الاقتراض من دول العالم إذا كان لديها عجز كبير في الميزان التجاري، فيؤدي ذلك بعد فترة من الزمن إلى فقدان الثقة بعملتها وبالتالي إنخفاض قيمتها مقابل بقية العمليات، مما يعني إرتفاع أسعار الواردات على المواطنين وتقلص قدرتهم على الاستهلاك مما يدفع بالميزان إلى التصحيح حتى تتساوى الصادرات مع الواردات ويختفي العجز أو تتجاوز الصادرات الواردات ويكون هناك فائض تجاري.

ما تصدره الدول من سلع وخدمات يكون في الغالبية العظمى من إنتاج مواطنيها، وحجم التصدير لأي دولة هو معيار رئيسي لمعرفة قوة الدولة من الناحية الصناعية، فدول مثل أمريكا واليابان وألمانيا والصين نجد أن حجم صادراتها ضخم جدا وهو يعكس قوتها الاقتصادية والصناعية، في المقابل نجد أن هناك دول أخرى لديها فوائض كبيرة ولكن هذه الفوائض لا تعكس قوتها الاقتصادية ولكنها تكون ناتجة عن وجود موارد طبيعية ليست من إنتاج الدولة وليس من إنتاج مواطنيها وبالتالي ترجح كفّة الصادرات على الواردات، وهذا ينطبق بالمجمل على غالبية دول الخليج أو أي دولة تعتمد في اقتصادها على تصدير النفط.

عند قراءة الأرقام الرسمية للصادرات والواردات في السعودية نجد أن قيمة الصادرات من السلع والخدمات تجاوزت 1.3 ترليون ريال سعودي (1300 مليار ريال). بينما تجاوزت قيمة الواردات 662 مليار ريال، وهذا يعني أن الفائض في الميزان التجاري يساوي أكثر من 600 مليار ريال، أي أننا نصدر للعالم أكثر بكثير مما نستورد وهذا إيجابي ولكنه لا يعطي الصورة بشكل كامل، فكيف سيكون شكل الميزان التجاري لو استثنينا النفط من المعادلة؟ بلغت قيمة الصادرات البترولية أكثر من 1.1 ترليون ريال (1100 مليار ريال)، أي أنها تمثل غالبية الصادرات، ولا تتجاوز قيمة الصادرات غير النفطية من سلع وخدمات 200 مليار ريال. وعند حساب الميزان التجاري من جديد بعد استثناء النفط، نجد أن هناك عجزا تجاريا يتجاوز 462 مليار ريال. أي أننا كدولة نستورد ونستهلك من العالم أكثر مما ننتج فعليا، ويتجاوز هذا الفارق بين انتاجنا الحقيقي واستهلاكنا 462 مليار ريال. هذا الرقم له أهمية كبيرة يجب أن يكون لها مكان جوهري في الخطط الاقتصادية الاستراتيجية، فسد الفجوة في العجز التجاري الحقيقي يجنبنا أي آثار مستقبلية إذا ضعفت قدرتنا على تصدير النفط بسبب الاستهلاك الداخلي أو غيره من العوامل، لأننا سنكون قادرين على إنتاج ما يكفي من سلع وخدمات للحصول على كل ما نحتاجه من العالم من دون أن نصدر برميلا واحدا.

قطاع التجزئة كم سعوديا سيوظف؟

ما زالت وزارة العمل مستمرة في تنفيذ خططها لسعودة القطاعات المختلفة وتطبيق نطاقات على شرائح أكثر من المنشآت، وأحد القطاعات التي كثر التركيز عليها في الفترة الأخيرة سواء من الناحية الإعلامية أو من قبل وزارة العمل هو قطاع التجزئة. وتشير الاحصاءات أن هذا القطاع يعمل فيه أكثر من 1.2 مليون، غالبيتهم العظمى من غير السعوديين. هذا الرقم الكبير نسبيا هو الذي دفع كثيرين لتسليط الضوء على هذا القطاع والحديث عن قدرته على توفير الكثير من الوظائف للمواطنين. هذا الاستنتاج قد لا يكون دقيقا، والسبب أن تكلفة توظيف غير السعودي في هذا القطاع أقل بكثير من تكلفة توظيف السعودي، وبالتالي فإن اقتصاديات القطاع ستتغير جذريا عندما يتم سعودته بالكامل وسيؤثر ذلك على طاقته الاستيعابية للوظائف، لذلك فمن المهم جدا أن يتم تقدير الطاقة الاستيعابية القصوى لهذا القطاع حتى يكون هذا التقدير استرشاديا لمن يعمل على بناء الخطط وسن القوانين.

لمعرفة حجم الوظائف التي يستوعبها قطاع معين يجب معرفة حجم هذا القطاع، ثم معرفة المعدل المتعارف عليه لنسبة الرواتب من إجمالي مبيعات المنشآت في هذا القطاع. وحسب المعايير العالمية تتراوح نسبة إجمالي رواتب الموظفين في قطاع التجزئة لإجمالي المبيعات بين 5%-8%. أي أن شركة التجزئة التي تبيع بعشرة ملايين ريال يفترض أن تكلفها الرواتب بين 500-800 ألف ريال.

يبلغ حجم قطاع التجزئة بالسعودية حسب آخر التقديرات 262 مليار ريال، هذا الرقم يشمل مبيعات جميع متاجر التجزئة كالبقالات ومحلات بيع الملابس وبيع الأجهزة والسيارات وغيرها. من خلال هذا الرقم يمكننا الحصول على الحجم الإجمالي للرواتب في هذا القطاع من خلال ضربه بالمعدل العالمي للنسبة، وسيتراوح الرقم بين 13 مليار و 21 مليار ريال سعودي وهو يمثل إجمالي ما سيدفعه قطاع التجزئة كرواتب أو تكاليف موظفين. بعد ذلك يمكن حساب عدد الوظائف في القطاع من خلال الإفتراض أن تكلفة الموظف السعودي الإجمالية تساوي 4500 ريال. بعد تقسيم 13 مليار و 21 مليار على 4500 ريال سنجد أن عدد الوظائف التي يستوعبها القطاع تتراوح بين 250 ألف و 400 ألف وظيفة، ولذلك يمكن الافتراض أن قطاع التجزئة لا يمكن أن يوفر أكثر من 400 ألف وظيفة للسعوديين، وعلى مدى عشر سنوات لن يتجاوز الرقم 600 ألف وظيفة على افتراض نسبة نمو سنوية 4% في قطاع التجزئة.

الأمر الآخر أن هذا الرقم لا يضع بالاعتبار أعداد السعوديين الذين سيفقدون مصدر دخلهم بسبب سعودة قطاع التجزئة، حيث ستؤدي السعودة الكلية لإغلاق كثير من المنشآت. ولا يوجد أرقام دقيقة لعدد المتضررين المتوقع ولكنه قد يتراوح بين 100 و 200 ألف مواطن. وبالتالي فإن صافي أعداد الوظائف التي سيوفرها قطاع التجزئة للاقتصاد ككل قد يكون في الواقع أقل من 400 ألف بسبب خسارة البعض مصادر دخلهم وتحولهم لعاطلين وقد لا يتجاوز صافي وظائف السعوديين التي سيوفرها قطاع التجزئة للاقتصاد أكثر من 200 ألف وظيفة.

رغم أن حجم الوظائف التي سيوفرها قطاع التجزئة قد لا تكون بالحجم الذي توقعه كثيرون إلا أن سعودة هذا القطاع بالكامل ضروري. فهو من القطاعات الاستهلاكية وليست الانتاجية، فأي تقلص لحجم القطاع بسبب السعودة الإجبارية لن يؤثر كثيرا على نمو القطاعات الإنتاجية، كما أن الوظائف في هذا القطاع لا تحتاج إلى أي مهارات خاصة ويمكن لأي مواطن حتى لو كانت مؤهلاته بسيطة أن يعمل فيها، كما أن التخلص من 1.2 مليون وافد سيوفر الكثير من الموارد المدعومة التي تستهلكها العمالة كاكهرباء والوقود ويقلص من حجم التحويلات الخارجية للأموال. سعودة قطاع التجزئة جزء من حل مشكلة البطالة، ولكنه جزء يسير.

دعم الأعلاف لن يحل أزمة الدجاج

ما زالت أزمة الدجاج تتصدر اهتمام الناس والإعلام وتزداد القضية تفاعلا مع قرارات الوزارة الأخيرة ومبادرات بعض المتاجر والمستوردين. بالإضافة إلى أنباء لزيادة نسبة الدعم للمزارع المحلية. كثير من المختصين والمهتمين بالشأن طرحوا اقتراحات مختلفة لحل الأزمة أو تقليل أثرها السلبي على المواطن، ولكن حتى نستطيع أن نعالج المشكلة يجب أن نشخصها بشكل أوضح.

سوق الدواجن ينقسم بشكل أساسي بين الدجاج المثلج المستورد والدجاج المحلي المبرد. وكانت حصة الدجاج المحلي بالسوق تتجاوز 80% قبل عشر سنوات أو اكثر والبقية للدجاج المستورد، وحيث أن المستهلك يفضل الدجاج المحلي المبرد لقناعات تتعلق بجودة المذاق فقد كان هناك استعداد لدفع مبلغ أعلى للدجاج المبرد، كان الدجاج المستورد – دائما – أقل سعرا من الدجاج المحلي.

وخلال العشر السنوات الأخيرة بدأت تتقلص حصة الدجاج المحلي لأن نمو الانتاج لم يتوازى مع نمو الاستهلاك وفي آخر السنوات استطاع الدجاج المستورد أن يمتلك حصة أكبر من السوق وصلت أخيرا لأكثر من 57% من إجمالي حجم سوق الدواجن. هذه الحصة الكبيرة من السوق منحت الدجاج المستورد قدرة أكبر على تحديد الأسعار وعدم الرضوخ لأسعار الدجاج المحلي، ومع بدء أزمة زيادة أسعار الأعلاف الأخيرة تم رفع سعر الدجاج المستورد وتجاوز سعره – لأول مرة في تاريخ السوق – سعر الدجاج المبرد المحلي. هذه الزيادة في سعر المستورد جعلت الدجاج المحلي أكثرجاذبية للمستهلك، حيث أن الدجاج المحلي أصبح أقل سعرا وأفضل جودة في نظر المستهلك، ولكن كميات الانتاج المحلي لا تتجاوز 43% من الطلب وزيادة حجم المعروض تحتاج لوقت طويل لتغطي زيادة الطلب، لذلك فإن أي خفض للدجاج المحلي المبرد سيؤدي على الأرجح إلى خلق شح بالسوق، أي أن كثيرا من المستهلكين لن يجد الدجاج المحلي بالسعر المخفض الجديد، بل أن هذا التخفيض قد يخلق سوقا سوداء، تباع فيها السلعة بسعر أعلى بسبب وجود الشح.

لذلك فإن طرح مبادرة لمزيد من الدعم لمنتجي الدجاج لن يكون له أي جدوى. فهوامش الأرباح للمنتجين المحليين ما زالت كبيرة، وحتى بعد ارتفاع أسعار الأعلاف فإن مزارع الدواجن قادرة على جني ارباح كبيرة. فما مبرر دعم المنتجين؟ بل أن هؤلاء المنتجين قادرين على إرجاع الاسعار لسابق عهدها وبدون أي دعم، ولكن هذا قد يزيد الفجوة بين المحلي والمستورد وبالتالي يزداد الطلب على المحلي ويحدث الشح الذي حذرنا منه. المخرج الوحيد من هذه الأزمة التركيز على تخفيض أسعار الدجاج المستورد وإرجاعها للأسعار السابقة – إن كان ذلك مجديا – والخطوة الأخرى طويلة المدى هي ضمان نمو كاف للإنتاج المحلي يضمن حصة أكبر من السوق – هذا على إفتراض أن تنمية هذا القطاع محليا استراتيجية صحيحة من الناحية الاقتصادية.

الدجاج وسياسة الدعم الفاشلة

أزمة جديد في ارتفاعات الأسعار واجهت المستهلكين في الأسابيع الماضية، هذه المرة كان الارتفاع في أسعار الدواجن. صاحب هذا الارتفاع غضب شعب وتنادى كثيرون لمقاطعة الدواجن كوسيلة للضغط على المنتجين لاعادة الأسعار لسابق عهدها، وخرج التبرير المعتاد من الشركات المنتجة أن أسعار الأعلاف ارتفعت وارتفعت معها التكاليف مما اضطرهم لرفع الأسعار، بينما خرجت الجهات الحكومية ببيانات ضبابية لا يمكن أن يستنتج معها المختصون شيئا، وبيانات أخرى غير منطقية.

فتصريح وكيل وزارة الزراعة على سبيل المثال ذكر أن أسعار الأعلاف ارتفعت بنسبة 30% وهي نفس النسبة التي ارتفعت بها الأسعار، وكأنه يلمح أن الارتفاع مبرر لأنه بنفس نسبة ارتفاع سعر الأعلاف، والحقيقة أن هذا يناقض مباديء المحاسبة، فمزارع الدواجن لا تبيع الدجاجة بسعر التكلفة، وإنما تبيعها بعد إضافة هامش ربح، كما أن الأعلاف لا تمثل كامل التكلفة، فالدجاجة التي تباع من المزرعة بـ 11 ريال قد لا تتجاوز تكلفة أعلافها 5 ريالات. وهذا يعني أنه لو ارتفعت الأعلاف 30% فالتكلفة تزداد  150 هللة، أي أقل من 14% ارتفاع على السعر الذي تبيع به المزرعة كل دجاجة.

الواضح كما هو الحال مع كثير من السلع المدعومة، أن أكبر مستفيد من الدعم هو المستثمر من خلال زيادة هوامش الأرباح وليس المستهلك النهائي، ومسلسل فشل أدوات الدعم يتكرر بشكل مستمر، فهناك دعم هائل تحصل عليه شركات الاسمنت وبالنهاية نجد أن هوامش ربحهم تتجاوز 50% ويحققون بذلك أرباحا فلكية، بالتالي فإن الدعم لا ينعكس على سعر السلعة النهائية الذي يدفعه المستهلك وإنما يستفيد منه المستثمر – الذي لا يحتاج لمن يدعمه ابتداء، فإذا كان هذا هو الحال، وكانت سياسات الدعم فاشلة بالمجمل، فالأولى أن يتم توجيه الدعم المباشر للمواطنين نقدا، بعد دراسة معدلات الأسعار والاستهلاك، بحيث يترك المجال لقوى السوق لتصحيح الاسعار وكميات العرض والطلب، وللمستهلك الحرية في اختيار ما يناسبه من سلع.

الأمر الآخر الذي يجب أن يعطى مزيدا من الاهتمام هو حتمية ارتفاع أسعار السلع، سواء استمر الدعم الحكومي للشركات أم لم يستمر، فقوى التضخم لن تتوقف، خاصة مع دخول مئات الملايين من سكان العالم لشريحة الطبقة المتوسطة، والنمو الاقتصادي الهائل في بعض الدول النامية الضخمة مثل الهند والصين، فهذه الطبقة المتوسطة ستزاحمنا في الاستهلاك، كما زاحمتنا الطبقة المتوسطة في الهند في استهلاك الأنواع عالية الجودة من الأرز وتسببت في ارتفاعات كبيرة في أسعارها. لذلك، يجب أن نضع في أذهاننا أن استراتيجية مواجهة التضخم على المدى الطويل يجب أن تبنى على أساس رفع مستوى الدخل والانتاجية، فما دام دخل المواطن وانتاجيته لا ينمو بنفس المقدار مقارنة ببقية شعوب الطبقة المتوسطة من العالم النامية، فسيأتي اليوم الذي نضطر فيه على أن نغير من مستوانا المعيشي ومستوى رفاهيتنا وقد ننسى عندها طعم الأرز البسمتي وننسى معه طعم اللحم والدجاج.