العدالة الاجتماعية وسعادة المجتمعات

في الصراع الدائر بين التيارات الاقتصادية الرأسمالية المختلفة، يؤمن تيار بالحرية المطلقة للأسواق والتدخل المحدود جدا للحكومات في توجيه الاقتصاد، وذلك بهدف الحصول على أقصى قدر من النمو الاقتصادي، حتى لو تسبب ذلك في زيادة الفجوة الاقتصادية بين فئات المجتمع، فهم يعتقدون أن النمو الاقتصادي يسهم في نهاية الأمر بزيادة المستوى المعيشي لكل أفراد المجتمع، بينما تعتقد تيارات أخرى – تصنف نفسها كرأسمالية أيضا – أن الدولة يجب أن تتدخل في بعض الجوانب الاقتصادية بشكل أكبر، كما أن الفجوة الاقتصادية بين أفراد المجتمع يجب أن لا تكون واسعة، ويجب أن توفر الأساسيات المعيشية لكل أفراد المجتمع، كالتعليم الجيد والعلاج الصحي والسكن.

ولكن السؤال الذي قد يغيب في دائرة هذا الصراع الأيدولوجي الاقتصادي، هل ستكون المجتمعات أكثر سعادة لو كانت إنتاجيتها عالية واقتصادها قوي مع وجود طبقية اجتماعية كبيرة؟ أم أنها ستكون أسعد لو كانت الفجوة الطبقية أقل مع إنتاجية ونمو اقتصادي أقل؟ أو حتى تكون صيغة السؤال أوضح، هل سيكون الإنسان أكثر سعادة لو كان مستوى دخله عالي ولكن بوجود الكثيرين حوله ممن يحصلون على دخل أعلى منه؟ أم أنه سيكون أسعد لو أن مستوى دخله متوسط مع قرب غالبية من حوله من مستوى دخله؟ أهمية الجواب تكمن في أن بحثنا عن أفضل منهج اقتصادي يهدف بالنهاية لجعل أفراد المجتمع أكثر سعادة، فالنمو الاقتصادي ليس هدفا بحد ذاته، وإنما وسيلة.

هذا التساؤل تمت الإجابة عليه في أحد أهم الكتب الاقتصادية التي كتبت في السنوات الأخيرة وهو كتاب (The Spirit Level). وقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير على الاقتصاديين والسياسيين، لأنه كشف بالحجة والدليل حقائق كانت غائبة عن الكثير. حيث يرصد الكتاب الوضع الاجتماعي للدول المتقدمة اقتصاديا، ثم يقارن مستوى الفجوة في مستوى الدخل بين أفراد المجتمع لكل دول، ثم يقارن عدة مؤشرات اجتماعية لمواطني هذه الدول. وقد جاءت اليابان والسويد والنرويج في أعلى القائمة كأقل الدول تمايزا من ناحية الدخل بين أفراد مجتمعها أي أن الفروقات بين شرائح المجتمع في هذه الدول من ناحية الدخل أقل من غيرها، وهي تمثل أفضل حالة للعدالة الاجتماعية من بين الدول المتقدمة اقتصاديا، بينما جاءت أمريكا والبرتغال في ذيل القائمة. مع ملاحظة أن أمريكا هي الأعلى من ناحية مستوى الدخل للفرد بين هذه الدول والأسرع نموا في الثلاثة عقود الماضية. وعند مقارنة المستوى الصحي لمواطني هذه الدول ونسبة المشاكل الإجتماعية نجد أيضا أن اليابان والسويد والنرويج في أعلى القائمة، وأمريكا والبرتغال في ذيل القائمة.

index-graph-inequality

ولتسهيل المقارنة، سنسمي مجموعة دول اليابان والسويد والنرويج بدول العدالة الاجتماعية، ونسمي أمريكا والبرتغال بدول الطبقية الاجتماعية، فعند الدخول بالتفاصيل، نجد أن نسبة موت المواليد الجدد في دول الطبقية الاجتماعية أعلى من دول العدالة الاجتماعية بنسبة الضعف تقريبا، ونسبة الأمراض النفسية في دول الطبقية الاجتماعية أعلى بنسبة الضعف أيضا، ونفس الشيء ينطبق على نسبة استخدام المخدرات حيث تقل بنسبة كبيرة في دول العدالة الاجتماعية. أما نسبة السجناء في دول الطبقية الاجتماعية فتزيد بمعدل يصل لثمانية أضعاف مقارنة بدول العدالة الاجتماعية. كما أن نسبة جرائم القتل في أمريكا تصل لستين جريمة لكل مليون مقارنة بأقل من خمسة جرائم في اليابان وعشرة في النرويج. وتستمر الأرقام الصادمة في التدفق، فحتى نسبة الحمل والولادة بين المراهقات تتضاعف بنسبة كبيرة تزيد على عشرة أضعاف في دول الطبقية الاجتماعية مقارنة بدول العدالة!

هذه الدراسات والأرقام تشكل صدمة حقيقية لكل الباحثين في المجال الاقتصادي، وقد تسهم في إعادة تشكيل الفكر الاقتصادي برمته، الذي نحى بالعقود الأخيرة للتركيز على النمو الاقتصادي بأسرع وتيرة مهما كان تأثير ذلك على نسيج واستقرار المجتمعات. وهي تعيد توجيه بوصلة الحكومات في كل ما يتعلق بإدارة الاقتصاد، فالتحدي الحقيقي لهذه الحكومات هو أن توازن بين تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاجية وبنفس الوقت تضمن عدم اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع والحرص على زيادة العدالة الاجتماعية التي تضمن مزيدا من الاستقرار والسعادة لكل فرد فيها.

(المقال منشور بجريدة اليوم)

تعليقات فيس بوك

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>