المرض السعودي

في سنة 1959 تم اكتشاف حقل ضخم للغاز في هولندا، وعلى إثر هذا الاكتشاف ارتفعت صادرات هولندا بشكل كبير مع زيادة صادراتها من الغاز، وأدى ذلك لزيادة الإنفاق الحكومي وتحسّن المستوى المعيشي للمواطنين في هولندا، وأغدقت الحكومة في برامج الرعاية الاجتماعية، وكان الاقتصاد الهولندي يعيش نموا مضطردا ارتفع معه الناتج القومي وثروة البلاد. ولكن بعد بضع سنوات اكتشف الاقتصاديون أضرارا لم تكن بالحسبان لهذا النمو الناتج من اكتشاف حقل الغاز، فمع تصاعد تصدير الغاز ارتفعت العملة الهولندية (الغيلدر) وانخفضت أسعار السلع المستوردة وارتفعت مقابلها أسعار السلع (غير النفطية) التي تصدرها هولندا، أدى ذلك لتآكل القطاع الصناعي في هولندا وتحولت الموارد (كرأس المال والقوى البشرية) للقطاعات غير القابلة للتداول (مثل قطاعات التجزئة والخدمات والانشاءات)، وهذه القطاعات غير قابلة للتصدير كما هو الحال في السلع القابلة للتداول، هذا التآكل في القطاع الصناعي جعل الاقتصاد الهولندي مكشوفا لأي هزة قد يواجهها سعر الغاز أو أي انخفاض في تصدير هذا المورد الطبيعي، كما أنه يضعف فرص النمو الاقتصادي على المدى الطويل لأن التطور التكنولوجي في القطاعات الغير قابلة للتداولة أقل تأثيرا في زيادة الانتاجية مقارنة بالتطور التكنولوجي في في الصناعة، كما أن كل وظيفة في القطاع الصناعي تخلق اكثر من وظيفة في القطاعات الأخرى، في عام 1977 نشرت مجلة (الإيكونومست) مقالا يشرح ما تعرضت له هولندا من تآكل في القطاع الصناعي بسبب اكتشاف كميات كبيرة من الغاز، وفي هذا المقال تم ابتكار المصطلح الشهير (المرض الهولندي)، هذا المصطلح الشائع أصبح يستخدم لوصف حال أي دولة يُكتشف فيها مورد طبيعي وتبدأ بتصديره ويرتفع بسببه سعر صرف العملة ويؤدي لإضعاف وتآكل القطاع الصناعي.

ما تعرض له الاقتصاد السعودي خلال الأربعين سنة الماضية أسوأ مما حدث في هولندا، فاكتشاف النفط والتصدير الضخم له، لم يقتصر أثره على قتل أي فرصة لتنمية الصناعة المحلية، ولكنه أيضا سمح بتدفق العمالة الرخيصة، ففي هولندا تضخمت القطاعات غير الصناعية على حساب الصناعة ولكن القوى البشرية في هذه القطاعات كانت جلها من المواطنين، أما في السعودية فقد كانت العمالة الوافدة الرخيصة هي السائدة لسد احتياجات هذا التضخم السرطاني في القطاعات غير الصناعية، حيث تجاوزت نسبة العمالة الوافدة في القطاع الخاص أكثر من 90%، وحتى بعد القرارات الأخيرة لوزارة العمل الهادفة لتوطين الوظائف لم تتجاوز نسبة المواطنين في القطاع الخاص 20%.

تصدير النفط دفع بالريال للارتفاع وقتل الصناعة المحلية وأغرق اقتصادنا بالسلع المستوردة – حيث نستورد ثلاثة أضعاف ما نصدر من السلع غير النفطية، كما أغرق الاقتصاد بالعمالة الرخيصة، وأصبحت الدولة بلا إنتاج وأصبح المواطن بلا عمل منتج. ولذلك فمن الإجحاف – لهولندا – أن نسمي ما يواجهه اقتصادنا بالمرض الهولندي، ولكن الأدق أن نسميه المرض السعودي.

نُشرت الكثير من الأبحاث والمقالات عن المرض الهولندي وتتفق غالبيتها على أن سبب هذا المرض هو ارتفاع سعر صرف العملة للدولة التي اكتشف فيها مورد طبيعي وبدأت بتصديره مما يقلل من تنافسية الصناعات المحلية لهذه الدولة، وتتفق غالبية الآراء – ومن ضمنها آراء لباحثين في صندوق النقد الدولي – أن أفضل علاج لهذا المرض هو تدخل الحكومة في سعر صرف العملة حتى تنخفض أكثر وتسمح بالنمو الصناعي من جديد، هذا العلاج هو ما نحتاجه في السعودية للقضاء على المرض السعودي، فلا مناص من خفض سعر العملة – ولو تدريجيا – حتى تتمكن الصناعة من النهوض ونبدأ في أولى خطوات بناء اقتصاد منتج ومستدام تدور عجلته من خلال سواعد أبنائه.

(المقال منشور بجريدة اليوم)

مصادر ومراجع مستخدمة في المقال:

  1. http://www.depfe.unam.mx/actividades/12/curso-crecimientoydesarrollo/07_corden_1984.pdf
  2. http://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=403041
  3. http://www.imf.org/external/pubs/ft/fandd/basics/dutch.htm
  4. http://www.forbes.com/sites/markadomanis/2012/06/22/is-russia-suffering-from-dutch-disease/

مقالات متعلقة:

  1. كيف تُخلق النقود؟
  2. كيف يتم تحديد سعر صرف العملة؟
  3. لماذا وكيف يتم تثبيت سعر العملة أو ربطها بالدولار؟
  4. لماذا 3.75 ريال للدولار وليس أكثر أو أقل؟
  5. ماذا لو تم رفع سعر صرف الريال؟
  6. ماذا لو تم خفض سعر صرف الريال؟
  7. 1000 مليار ريال… أين اختفت؟

تعليقات فيس بوك

2 thoughts on “المرض السعودي

  1. عصاموش

    انا من اسرائيل نرحب بك في اي وقت اطلب ماتريد لا يهمنا مليونير او فنان او او لأنا نحن الذين صنعناهم انت عندنا اخطرمن المفاعل النووي انت مفاعل اقتصادي
    ملاحظه
    في حال رفضت الدعوه سنغتالك

    Reply
  2. ِأحمد

    ليست المشكلة في تصدير النفظ ولكن اعتماد عليه كمصدر وحيد بدلاً من الصناعة والتصدير

    Reply

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>