Monthly Archives: يوليو 2014

تمرية من جديد

تحدثنا في المقال السابق عن الأسباب التي تجعل الدول المتقدمة لا تفتح أبوابها على مصراعيها للعمالة الرخيصة، وذكرنا أن أهم الأسباب تتركز على الضرر الكبير على متوسط مستويات الدخل للمواطنين بالإضافة لإضعاف نمو الإنتاجية في الاقتصاد. حيث أن وفرة العمالة الرخيصة تقضي على أي حافز لزيادة إنتاجية الموظفين من خلال الأتمتة أو من خلال التدريب. وفي نهاية المقال ذكرت أنني سأكتب في المقال القادم نموذجا حيا للأثر الإيجابي على الاقتصاد لإيقاف تدفق العمالة الرخيصة.

قبل حوالي سنة ونصف، كتبت مقالا عن تجربة لأحد الأصدقاء، وهو أحد الملّاك والمدراء لشركة تمرية المختصة في مجال حلويات التمور الفاخرة. روى هذا الصديق أن تضييق وزارة العمل على استقدام العمالة الرخيصة أجبرهم على البحث عن وسائل أخرى للاستمرار في النمو. فأصبح النمو من خلال زيادة العمالة الرخيصة خيارا غير مطروح. فقرر ملاك الشركة الاستثمار في شراء معدات لأتمتة جزء كبير من العمل اليدوي، مما يعني القدرة على زيادة الإنتاج دون زيادة كبيرة في اليد العاملة.

كلّفت المعدات حوالي 3 ملايين ريال، بالإضافة للتكاليف الأخرى المتعلقة بتجهيز المصنع، ليصل المجموع إلى حوالي 5 ملايين. هذه المعدات رفعت الإنتاجية عدة أضعاف. وسمحت للشركة بأن تزيد في الإنتاج بكمية كبيرة دون استقدام مزيد من العمالة. ولكن، النقطة الأهم هي أن الشركة أصبحت قادرة أن تبيع المنتج بسعر أقل، لأن تكلفة الإنتاج الإجمالية أصبحت أقل، وهذا ما حدث فعلا، حيث أن سعر المنتج تم تخفيضه بنسبة 10% بعد بدء تشغيل المصنع، لاحظوا المفارقة: ارتفاع تكلفة العمالة أدى بالنهاية إلى انخفاض السعر. كيف حدث ذلك؟ عندما ترتفع تكلفة اليد العاملة يبحث المستثمر عن وسائل أخرى لرفع الإنتاجية، وهنا يأتي دور الأتمتة. هكذا تنمو الدول المتقدمة وترفع من ناتجها القومي وتزيد من رفاهية مواطنيها، الاستثمار المستمر في مراكمة رأس المال المنتج والتدريب، وليس من خلال استقدام المزيد من العمالة الرخيصة.

لماذا لا تفتح الدول المتقدمة أبواب الاستقدام على مصراعيها؟

في المقال السابق تحدثنا عن الأرقام الحقيقية لنسب العمالة الوافدة في الدول المتقدمة، وذلك في سياق الرد على مبالغات من يدّعي أن الدول المتقدمة تعتمد بشكل كبير على العمالة الوافدة. حيث بيّنت الأرقام أن نسب العمالة الوافدة في غالبية الدول المتقدمة تتراوح بين 5 إلى 15% مقارنة بأكثر من 70% في السعودية.

وفي هذا المقال نتحدث عن السبب الذي يجعل تلك الدول تتحفظ على فتح أبواب الاستقدام بشكل كامل، رغم أن العمالة الوافدة ستقلل نظريا من تكاليف الخدمات. وسأركز على الجانب الاقتصادي وسأتجاهل الجوانب الاجتماعية والسياسية رغم أهميتها أيضا.

حتى تتضح الصورة، لنفترض أن أحد تلك الدول المتقدمة – على سبيل المثال أمريكا، والتي يوجد بها من العمالة الوافدة أقل من 14% – قررت فتح أبواب الهجرة إليها على مصراعيها وبدون تحفظ. ما الذي سيحدث؟

حصة الفرد من الناتج القومي في أمريكا حوالي 53 ألف دولار، وهي من أعلى الأرقام في العالم. في المقابل فإن معدل حصة الفرد في العالم لا تتجاوز 10 آلاف دولار. كما أن كثيرا من الدول ذات الكثافة السكانية كالهند وباكستان وإندونيسيا لا تتجاوز حصة الفرد فيها 5 آلاف دولار. أي أن حصة الأمريكي توازي عشرة أضعاف حصة الفرد في تلك الدول. النتيجة المباشرة لفتح أبواب الهجرة لأمريكا، أن أعدادا ضخمة جدا ستهاجر من دول العالم الأفقر إلى أمريكا، ومع كل زيادة في عدد المهاجرين سيزداد عدد سكان أمريكا وستنخفض حصة الفرد معها، لأن الزيادة في تدفق المهاجرين لن توازي الزيادة في حجم الناتج القومي لأمريكا. وستستمر الهجرة إلى أمريكا حتى تنخفض معدلات دخول العاملين في أمريكا لأرقام مقاربة للمعدل العالمي أو حتى مقاربة لمعدلات الدول الأفقر كالهند وإندونيسيا.

بالإضافة للضرر المباشر على مستوى دخول المواطنين في أمريكا، فإن مستوى الخدمات العامة سيتدهور بشكل مطرد، فبينما كانت تلك الخدمات موجهة لثلاثمائة مليون، فإنها الآن مضطرة لخدمة مليار أو أكثر. أما الضرر الاقتصادي الجوهري، فهو أن وفرة العمالة الرخيصة ستقتل أي حافز لرفع الإنتاجية، فعندما تتوفر اليد العاملة الرخيصة فلن يكون هناك دافع للاستثمار بالتقنيات والمعدات التي تقلل الحاجة لليد العاملة. وبالتالي سيتباطأ أو يتوقف نمو الإنتاجية للفرد ومعه يتوقف أو يتباطأ نمو الدخل للمواطنين. وفي المقال القادم سأستشهد بقصة محلية حقيقية تظهر بجلاء العلاقة بين صعوبة الحصول على اليد العاملة الرخيصة وزيادة الإنتاجية.

ما الذي يحدث إذا اختفت البطالة؟

بالنسبة لحكومة أي دولة، فإن أهم المؤشرات الاقتصادية بالنسبة لها هي نسبة البطالة ونسبة التضخم، بالإضافة لنسبة النمو في الناتج المحلي. تهدف أي حكومة لتقليل نسبة البطالة لأدنى حد ممكن، والسيطرة على التضخم بحيث لا يتجاوز مستوى معين (عادة 2%). كما تسعى الحكومة على رفع حجم النمو السنوي للاقتصاد. المعضلة التي تواجهها غالب الحكومات، أن انخفاض مستوى البطالة يؤدي عادة لارتفاع التضخم، والعكس صحيح. فارتفاع مستوى التضخم عادة ما يتصاحب مع انخفاض في معدلات البطالة.

عندما تنخفض مستويات البطالة لمعدلات منخفضة جدا، وتواجه الشركات صعوبات في التوظيف، تبدأ مستويات الرواتب بالارتفاع، لأن الشركات تتنافس للحصول على سلعة شحيحة ألا وهي الموظفين. هذا التنافس على التوظيف وارتفاع مستويات الرواتب، يرفع أسعار السلع والخدمات وبالتالي ترتفع مستويات التضخم. كيف تواجه حكومات العالم المتقدم هذه الظاهرة؟ هناك شح في اليد العاملة، ومستويات الرواتب في ارتفاع، والتضخم يرتفع. هل تقوم تلك الدول بفتح باب استقدام العمالة الرخيصة على مصراعيه لتسهيل أعمال الشركات؟ أم تقوم بإجراء آخر.

ما تقوم به حكومات الدول المتقدمة إذا واجهت هذه الحالة هو رفع مستوى الفائدة. رفع مستوى الفائدة يؤدي لإبطاء نمو الشركات، لأن تكلفة الاقتراض ترتفع، بالتالي لا تقوم الشركات بالاقتراض إلا إذا كانت العوائد مجدية بمعدلات الفائدة الجديدة. تباطؤ نمو الشركات يؤدي لتباطؤ التنافس على التوظيف، بالتالي يتوقف ارتفاع مستويات الرواتب ومعه يتوقف ارتفاع معدلات التضخم.

هل هذا يعني أن مستويات الرواتب ومستوى الدخل للمواطنين لن يرتفع؟ مستوى الدخل يرتفع بعد ذلك مع ارتفاع مستويات الإنتاجية، والإنتاجية ترتفع من خلال التدريب والتعليم بالإضافة إلى مراكمة رأس المال المنتج كالمعدات الصناعية التي تؤتمت الإنتاج وترفع إنتاجية العاملين.