Monthly Archives: فبراير 2012

العدالة الاجتماعية وسعادة المجتمعات

في الصراع الدائر بين التيارات الاقتصادية الرأسمالية المختلفة، يؤمن تيار بالحرية المطلقة للأسواق والتدخل المحدود جدا للحكومات في توجيه الاقتصاد، وذلك بهدف الحصول على أقصى قدر من النمو الاقتصادي، حتى لو تسبب ذلك في زيادة الفجوة الاقتصادية بين فئات المجتمع، فهم يعتقدون أن النمو الاقتصادي يسهم في نهاية الأمر بزيادة المستوى المعيشي لكل أفراد المجتمع، بينما تعتقد تيارات أخرى – تصنف نفسها كرأسمالية أيضا – أن الدولة يجب أن تتدخل في بعض الجوانب الاقتصادية بشكل أكبر، كما أن الفجوة الاقتصادية بين أفراد المجتمع يجب أن لا تكون واسعة، ويجب أن توفر الأساسيات المعيشية لكل أفراد المجتمع، كالتعليم الجيد والعلاج الصحي والسكن.

ولكن السؤال الذي قد يغيب في دائرة هذا الصراع الأيدولوجي الاقتصادي، هل ستكون المجتمعات أكثر سعادة لو كانت إنتاجيتها عالية واقتصادها قوي مع وجود طبقية اجتماعية كبيرة؟ أم أنها ستكون أسعد لو كانت الفجوة الطبقية أقل مع إنتاجية ونمو اقتصادي أقل؟ أو حتى تكون صيغة السؤال أوضح، هل سيكون الإنسان أكثر سعادة لو كان مستوى دخله عالي ولكن بوجود الكثيرين حوله ممن يحصلون على دخل أعلى منه؟ أم أنه سيكون أسعد لو أن مستوى دخله متوسط مع قرب غالبية من حوله من مستوى دخله؟ أهمية الجواب تكمن في أن بحثنا عن أفضل منهج اقتصادي يهدف بالنهاية لجعل أفراد المجتمع أكثر سعادة، فالنمو الاقتصادي ليس هدفا بحد ذاته، وإنما وسيلة.

هذا التساؤل تمت الإجابة عليه في أحد أهم الكتب الاقتصادية التي كتبت في السنوات الأخيرة وهو كتاب (The Spirit Level). وقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير على الاقتصاديين والسياسيين، لأنه كشف بالحجة والدليل حقائق كانت غائبة عن الكثير. حيث يرصد الكتاب الوضع الاجتماعي للدول المتقدمة اقتصاديا، ثم يقارن مستوى الفجوة في مستوى الدخل بين أفراد المجتمع لكل دول، ثم يقارن عدة مؤشرات اجتماعية لمواطني هذه الدول. وقد جاءت اليابان والسويد والنرويج في أعلى القائمة كأقل الدول تمايزا من ناحية الدخل بين أفراد مجتمعها أي أن الفروقات بين شرائح المجتمع في هذه الدول من ناحية الدخل أقل من غيرها، وهي تمثل أفضل حالة للعدالة الاجتماعية من بين الدول المتقدمة اقتصاديا، بينما جاءت أمريكا والبرتغال في ذيل القائمة. مع ملاحظة أن أمريكا هي الأعلى من ناحية مستوى الدخل للفرد بين هذه الدول والأسرع نموا في الثلاثة عقود الماضية. وعند مقارنة المستوى الصحي لمواطني هذه الدول ونسبة المشاكل الإجتماعية نجد أيضا أن اليابان والسويد والنرويج في أعلى القائمة، وأمريكا والبرتغال في ذيل القائمة.

index-graph-inequality

ولتسهيل المقارنة، سنسمي مجموعة دول اليابان والسويد والنرويج بدول العدالة الاجتماعية، ونسمي أمريكا والبرتغال بدول الطبقية الاجتماعية، فعند الدخول بالتفاصيل، نجد أن نسبة موت المواليد الجدد في دول الطبقية الاجتماعية أعلى من دول العدالة الاجتماعية بنسبة الضعف تقريبا، ونسبة الأمراض النفسية في دول الطبقية الاجتماعية أعلى بنسبة الضعف أيضا، ونفس الشيء ينطبق على نسبة استخدام المخدرات حيث تقل بنسبة كبيرة في دول العدالة الاجتماعية. أما نسبة السجناء في دول الطبقية الاجتماعية فتزيد بمعدل يصل لثمانية أضعاف مقارنة بدول العدالة الاجتماعية. كما أن نسبة جرائم القتل في أمريكا تصل لستين جريمة لكل مليون مقارنة بأقل من خمسة جرائم في اليابان وعشرة في النرويج. وتستمر الأرقام الصادمة في التدفق، فحتى نسبة الحمل والولادة بين المراهقات تتضاعف بنسبة كبيرة تزيد على عشرة أضعاف في دول الطبقية الاجتماعية مقارنة بدول العدالة!

هذه الدراسات والأرقام تشكل صدمة حقيقية لكل الباحثين في المجال الاقتصادي، وقد تسهم في إعادة تشكيل الفكر الاقتصادي برمته، الذي نحى بالعقود الأخيرة للتركيز على النمو الاقتصادي بأسرع وتيرة مهما كان تأثير ذلك على نسيج واستقرار المجتمعات. وهي تعيد توجيه بوصلة الحكومات في كل ما يتعلق بإدارة الاقتصاد، فالتحدي الحقيقي لهذه الحكومات هو أن توازن بين تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاجية وبنفس الوقت تضمن عدم اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع والحرص على زيادة العدالة الاجتماعية التي تضمن مزيدا من الاستقرار والسعادة لكل فرد فيها.

(المقال منشور بجريدة اليوم)

ضامن… وصب الزيت على النار

أعلن صندوق التنمية العقاري الأسبوع الماضي عن توقيع اتفاقية برنامج “ضامن” مع أحد البنوك المحلية، ويهدف البرنامج حسب تصريح المسؤولين لتسريع عملية الحصول على القرض العقاري وزيادة حجم التمويل لمن يملكون الملاءة المالية. ورغم وجود بعض الغموض بتفاصيل الاتفاقية إلى أنه بناء على ما نشر فإن البرنامج يفترض أن يقلص من قوائم الانتظار في صندوق التنمية العقاري من خلال برنامج تم تسميته (القرض المعجّل). كما أن الاتفاقية ستسمح لأصحاب الملاءة المالية الجيدة بأخذ قرض يزيد على 500 ألف ريال من خلال برنامج آخر تم تسميته (التمويل الإضافي).

التأثير المباشر لهذا البرنامج إذا تم البدء بتطبيقه – وهو بدأ فعلا حسب ما ينشر بالصحف – أن الطلب على المساكن سيرتفع، لأن القدرة الشرائية زادت عند المستهلكين، فمع (القرض المعجّل) لو كان إجمالي من يقرضهم صندوق التنمية سنويا هو 30 ألف على سبيل المثال فإن عددهم سيكون 50 ألف. ولو كان معدل الإقراض لكل مستفيد 500 ألف ريال قبل برنامج “ضامن” فإنه سيكون ربما 650 ألف نتيجة لـ(التمويل الإضافي)، كل ذلك سيؤدي لصب الزيت على النار في سوق ملتهب أصلا، وسترتفع أسعار الوحدات السكنية والأراضي السكنية بشكل يتناسب مباشرة مع الزيادة في السيولة التي دخلت السوق من خلال المستفيدين من صندوق التنمية العقاري وبرنامج ضامن. وهو نفس ما حدث بعدما رفع الصندوق قيمة القرض لـ500 ألف ريال بعد أن كان 300 ألف ريال فقط. حيث ارتفعت أسعار الأراضي أكثر، كما ارتفعت أسعار شقق التمليك بنسبة كبيرة وكثير منها ارتفع بنفس نسبة زيادة القرض، أي أرتفع 200 ألف ريال.

يجب أن يعي المسؤولون بشكل واضح أن المشكلة الرئيسية للإسكان ليست نقص السيولة أو انعدام التمويل لدى الراغبين بامتلاك سكن. المشكلة التي نواجهها هي مشكلة شح مصطنع للأراضي ناتج عن الاحتكار. وعندما يكون هناك شح في سلعة معينة، فكيف ستفيد زيادة القوة الشرائية في حل هذا الشح!؟ الشح الذي نواجهه بسبب الاحتكار لا يمكن حله إلا بكسر الاحتكار. وكسر الاحتكار لا يكون إلا من خلال نزع الأراضي المحتكرة أو زيادة تكلفة الاحتفاظ بها من خلال الرسوم أو جباية الزكاة، وأي محاولة للحوم حول المشكلة من دون العمل على علاج جذورها لن يجدي نفعا وسيسهم في استمرار معاناة الناس أو حتى زيادتها كما هو حاصل في برنامج (ضامن).

(المقال منشور في جريدة اليوم)

شكرا ساهر

لو قيل لك ادفع مبلغ ألفين ريال سنويا وسنضمن لك أن تتقلص احتمالية تعرضك أو تعرض أي من أفراد أسرتك لحادث قاتل بنسبة تتجاوز 30% فهل ستوافق؟ أجزم أن الغالبية العظمى سيجيبون بالموافقة، فلا شيء يعدل حفظ الأرواح، وكثير منّا يدفع مبالغ أكثر لأمور كمالية ليس لها أي أهمية، وكثير من الأسر تدفع مبالغ أكثر بكثير للتأمين الصحي وذلك لضمان العلاج لأفراد الأسرة في حال تعرضوا لأي مرض حتى لو كانت احتمالية ذلك بسيطة، فما بالك بالموت.

نشر مرور جدة إحصائية جديدة عن نظام “ساهر”، وبيّنت الإحصائية بشكل دقيق النتائج التي حققها النظام في جدة خلال سنة واحدة، ومن ضمن هذه النتائج هو انخفاض نسبة الوفيات الناتجة من الحوادث بنسبة 35% وذلك بفضل الله ثم بفضل نظام “ساهر”. هذه النسبة بكل المعايير كبيرة جدا، فأعداد الوفيات بسبب الحوادث في السعودية تتجاوز 7000 آلاف سنويا. وهو رقم ضخم يتجاوز عدد من قتلهم النظام السوري خلال سنة من الثورة! وفي كل أسبوع نسمع بأسرة تفقد أحد أفرادها بسبب حادث مروري وكأننا نعيش في حرب مستمرة. وبناء على الإحصائية فإننا لو طبقنا نظام ساهر في كل أنحاء المملكة فإننا قد نتمكن من حفظ أكثر من 2400 نفس، وهي نتيجة تجعلنا نفكر مرارا قبل أن نعترض على نظام ساهر.

نعم، قد يشوب آلية تطبيق نظام ساهر بعض السلبيات والعيوب، ولكن هل إتقان آلية التنفيذ الذي قد يتسبب في تأخير تطبيق النظام أو إبطاؤه أهم من حفظ الأنفس؟ حفظ النفس من أهم الضرورات الخمس التي عملت الشريعة على حمايتها. وهي تأتي بعد حفظ الدين، وتسبق حفظ العِرض وتسبق أيضا ضرورة حفظ المال. فلا يوجد مسوغ شرعي أو منطقي للإعتراض على المبالغ التي يدفعها من يخالفون النظام، ويتجاوزون السرعة المسموح بها، ونحن نعلم أن ذلك سبب – بفضل الله – لحفظ الأرواح. وليس لنا إلا أن نتخيل حجم الألم والحزن الذي تتعرض له أسرة فقدت أحد أفرادها بسبب حادث مروري، وهو ألم لا تمانع الأسرة أن تدفع كل أموال الدنيا لتتجنبه، وقبل أن نطالب يإيقاف النظام أو تحسينه، علينا أن نطالب أن يكون ساهر في كل شارع وفي كل طريق، ما دامت الأرقام تثبت أنه سيحفظ مزيدا من الأرواح.

(المقال منشور في جريدة اليوم)